رباعيات الخيام



سمعت صوتا هاتفا في السحر نادى من الحان : غفاة البشر
هبوا املئوا كأس الطلى قبل أن تفعم كأس العمر كف القدر


***

أحس في نفسي دبيب الفناء ولم أصب في العيش إلا الشقاء
يا حسرتا إن حان حيني ولم يتح لفكري حل لغز القضاء


***


أفق وهات الكأس أنعم بها واكشف خفايا النفس من حجبها
وروّ أوصالي بها قبلما يصاغ دنّ الخمر من تربها


***


تروح أيامي ولا تغتدي كما تهب الريح في الفدفد
وما طويت النفس هما على يومين أمس المنقضي والغد


***


غد بظهر الغيب واليوم لي وكم يخيب الظن في المقبل
ولست بالغافل حتى أرى جمال دنياي ولا أجتلي
***


سمعت في حلمي صوتا أهاب ما فتق النوم كمام الشباب
أفق فإن النوم صنو الردى واشرب فمثواك فراش التراب


***


قد مزق البدر سنار الظلام فاغنم صفا الوقت وهات المدام
واطرب فإن البدر من بعدنا يسري علينا في طباق الرغام


***


سأنتحي الموت حثيث الورود وينمحي اسمي من سجل الوجود
هات اسقنيها يا منى خاطري فغاية الأيام طول الهجود


***


هات اسقنيها أيهذا النديم أخضب من الوجه اصفرار الهموم
و إن مت فاجعل غسولي الطلى وقد نعشي من فروع الكروم


***


إن تقتلع من أصلها سرحتي وتصبح الأغصان قد جفت
فصغ وعاء الخمر من طينتي واملأه تسر الروح في جثتي


***

لبست ثوب العيش لم أستشر وحرت فيه بين شتى الفكر
وسوف أنضو الثوب عني ولم أدرك لماذا جئت أين المقر


***


نمضي وتبقى العيشة الراضية وتنمحي أثارنا الماضية
فقبل أن نحيى ومن بعدنا وهذه الدنيا على ما هيه


***


طوت يد الأقدار سفر الشباب وصوحت تلك الغصون الرطاب
وقد شدا طير الصبى واختفى متى أتى يا لهفا أين غاب


***


الدهر لا يعطي الذي نأمل و في سبيل اليأس ما نعمل
و نحن في الدنيا على همها يسوقنا حادي الردى المعجل


***


أفق خفيف الظل هذا السحر وهاتها صرفا وناغ الوتر
فما أطال النوم عمرا ولا قصر في الأعمار طول السهر


***

اشرب فمثواك التراب المهيل بلا حبيب مؤنس أو خليل
و انشق عبير العيش في فجره فليس يزهو الورد بعد الذبول


***


كم آلم الدهر فؤادا طعين وأسلم الروح ظعين حزين
وليس ممن فاتنا عائد أسأله عن حالة الراحلين


***


يا دهر أكثرت البلى والخراب وسمت كل الناس سوء العذاب
ويا ثرى كم فيك من جوهر يبين لو ينبش هذا التراب


***


وكم توالى الليل بعد النهار وطال بالأنجم هذا المدار
فامش الهوينا إن هذا الثرى من أعين ساحرة الإحورار


***


أين النديم السمح أين الصبوح فقد أمض الهم قلبي الجريح
ثلاثة هن أحب المنى كأس و أنغام ووجه صبيح


***

نفوسنا ترضى احتكام الشراب أرواحنا تفدى الثنايا العذاب
و روح هذا الذي نستله ونستقيه سائغا مستطاب


***


يا نفس ما هذا الأسى والكدر قد وقع الإثم وضاع الحذر
هل ذاق حلو العفو إلا الذي أذنب والله عفا واغتفر


***


نلبس بين الناس ثوب الرياء و نحن في قبضة كف القضاء
وكم سعينا نرتجي مهربا فكان مسعانا جميعا هباء


***

لم تفتح الأنفس باب الغيوب حتى ترى كيف تسام القلوب
ما أتعس القلب الذي لم يكد يلتام حتى أنكأته الخطوب

***
عامل كأهليك الغريب الوفي واقطع من الأهل الذي لا يفي
و عف زلالا ليس فيه الشفا واشرب زعاف السم لو تشتفي

***


أحسن الى الأعداء و الأصدقاء فإنما إنس القلوب الصفاء
و اغفر لأصحابك زلاتهم وسامح الأعداء تمح العداء

***

عاشر من الناس كبار العقول وجانب الجهال أهل الفضول
واشرب نقيع السم من عاقل واسكب على الأرض دواء الجهول

***

يا تارك الخمر لماذا تلوم دعني الى ربي الغفور الرحيم
ولا تفاخرني بهجر الطلى فأنت جان في سواها أثيم

***

أطفيء لظى القلب ببرد الشراب فإنما الأيام مثل السحاب
وعيشنا طيف خيال فنل حظك منه قبل فوت الشباب

***

بستان أيامك نامي الشجر فكيف لا تقطف غض الثمر
اشرب فهذا اليوم إن أدبرت به الليالي لم يعده القدر

***

جادت بساط الروض كف السحاب فنزه الطرف وهات الشراب
فهذه الخضرة من بعدنا تنمو على أجسادنا في التراب

***

و إن تواف العشب عند الغدير وقد كسا الأرض بساط نضير
فامش الهوينا فوقه إنه غذته أوصال حبيب طرير

***

يا نفس قد آدك حمل الحزن يا روح مقدور فراق البدن
اقطف أزاهير المنى قبل أن يجف من عيشك غض الفنن

***

يحلو ارتشاف الخمر عند الربيع ونشر أزهار الروابي يضوع
وتعذب الشكوى الى فاتن على شفا الوادي الخصيب الينيع

***

فلا تتب عن حسو هذا الشراب فإنما تندم بعد المتاب
وكيف تصحو وطيور الربى صداحة و الروض غض الجناب

***

زخارف الدنيا أساس الألم وطالب الدنيا نديم الندم
فكن خلي البال من أمرها فكل ما فيها شقاء وهم

***

و أسعد الخلق قليل الفضول من يهجر الناس ويرضى القليل
كأنه عنقاء عند السهى لا بومة تنعب بين الطلول

***

من يحسب المال أحب المنى و يزرع الأرض يريد الغنى
يفارق الدنيا ولم يختبر في كده أحوال هذي الدنى

***

سرى بجسمي الغض ماء الفناء وسار في روحي لهيب الشقاء
وهمت مثل الريح حتى ذرت تراب جسمي عاصفات القضاء

***

يا من يحار الفهم في قدرتك وتطلب النفس حمى طاعتك
أسكرني الإثم و لكنني صحوت بالآمال في رحمتك

***

لم أشرب الخمر ابتغاء الطرب ولا دعتني قلة في الأدب
لكن إحساسي نزاعا إلى إطلاق نفسي كان كل السبب

***

أفنيت عمري في اكتناه القضاء وكشف ما يحجبه في الخفاء
فلم أجد أسراره وانقضى عمري وأحسست دبيب الفناء

***

أطال أهل الأنفس الباصرة تفكيرهم في ذاتك القادرة
ولم تزل يا رب أفهامهم حيرى كهذي الأنجم الحائرة

***

لم يجن شيئا من حياتي الوجود ولن يضير الكون أني أبيد
واحيرتي ما قال لي قائل ماذا اشتعال الروح كيف الخمود

***

إذا انطوى عيشي وحان الأجل وسد في وجهي باب الأمل
قرّ حباب العمر في كأسه فصبها للموت ساقي الأزل

***

إن لم أكن أخلصت في طاعتك فإنني أطمع في رحمتك
و إنما يشفع لي أنني قد عشت لا أشرك في وحدتك

***

يا رب هيئ سبب الرزق لي ولا تذقني منة المفضل
وأبقني نشوان كيما أرى روحي نجت من دائها المعضل

***

أفنيت عمري في ارتقاب المنى ولم أذق في العيش طعم الهنا
وإنني أشفق أن ينقضي عمري وما فارقت هذا العنا


***


لم يبرح الداء فؤادي العليل ولم أنل قصدي وحان الرحيل
وفات عمري وأنا جاهل كتاب هذا الدهر جم الفصول


***


صفا لك اليوم ورقّ النسيم وجال في الأزهار دمع الغيوم
ورجّع البلبل ألحانه يقول هيا اطرب وخل الهموم


***

الدرع لا تمنع سهم الأجل والمال لا يدفعه إن نزل
وكل ما في عيشنا زائل لا شيء يبقى غير طيب العمل


***


الله يدري كل ما تضمر يعلم ما تخفي وما تظهر
وإن خدعت الناس لم تستطع خداع من يطوي ومن ينشر


***


وإنما بالموت كل رهين فاطرب فما أنت من الخالدين
واشرب ولا تحمل أسى فادحا وخلّ حمل الهم للاحقين


***


رأيت خزافا رحاه تدور يجدّ في صوغ دنان الخمور
كأنه يخلط في طينها جمجمة الشاه بساق الفقير


***


تمتلك الناس الهوى والغرور وفتنة الغيد وسكنى القصور
ولو تزال الحجب بانت لهم زخارف الدنيا وعقبى الأمور


***

إن الذي تأنس فيه الوفاء لا يحفظ الود وعهد الإخاء
فعاشر الناس على ريبة منهم ولا تكثر من الأصدقاء


***

زاد الندى في الزهر حتى غدا منحنيا من حمل قطر الندى
والكُم قد جمع أوراقه فظلّ في زهر الرّبى سيدا


***

وأسعد الخلق الذي يرزق وبابه دون الورى مغلق
لا سيدٌ فيهم ولا خادم لهم ولكن وادع مطلق


***


قلبي في صدري أسير سجين تخجله عشرة ماء وطين
وكم جرى عزمي بتحطيمه فكان ينهاني نداء اليقين


***


مصباح قلبي يستمدّ الضياء من طلعة الغيد ذوات البهاء
لكنني مثل الفراش الذي يسعى الى النور وفيه الفناء


***

طبعي ائتناسي بالوجوه الحسان وديدني شرب عتاق الدنان
فاجمع شتات الحظ وانعم بها من قبل أن تطويك كف الزمان


***

عاقب الأيام يدني الأجل ومرها يطويك طيّ السجل
وسوف تفنى وهي في كرِّها فقضِّ ما تغنمه في جذل


***


لا تشغل البال بماضي الزمان ولا بآتي العيش قبل الأوان
واغنم من الحاضر لذّاته فليس في طبع الليالي الأمان


***


قيل لدى الحشر يكون الحساب فيغضب الله الشديد العقاب
وما انطوى الرحمن إلا على إنالة الخير ومنح الثواب


***


كان الذي صورني يعلم في الغيب ما أجني وما آثم
فكيف يجزيني على أنني أجرمت والجرم قضا مبرم


***

هات اسقني كأس الطلى السلسل وغنني لحنا مع البلبل
فإنما الإبريق في صبه يحكي خرير الماء في الجدول


***


الخمر في الكأس خيال ظريف وهي بجوف الدنّ روح لطيف
أبعد ثقيل الظّل عن مجلسي فإنما للخمر ظل خفيف


***


باب نديمي ذو الثنايا الوضاح وبيننا زهر أنيق وراح
وافتض من لؤلؤ أصدافها فافترّ في الآفاق ثغر الصباح

***

نار الهوى تمنع طيب المنام وراحة النفس ولذّ الطعام
وفاتر الحب ضعيف اللظى منطفئ الشعلة خابي الضرام

***


القلب قد أضناه عشق الجمال والصدر قد ضاق بما لا يقال
يا ربّ هل يرضيك هذا الضما والماء ينساب أمامي زلال

***

خلقتني يا ربّ ماء وطين وصغتني ما شئت عزّا وهون
فما احتيالي والذي قد جرى كتبته يا ربّ فوق الجبين

***

ويا فؤادي تلك دنيا الخيال فلا تنؤ تحت الهموم الثقال
وسلم الأمر فمحو الذي خطت يد المقدار أمر محال

***


وإنما نحن رخاخ القضاء ينقلنا في اللوح أنى يشاء
وكل من يفرغ من دوره يلقى به في مستقر الفناء

***

رأيت صفا من دنان سرى ما بينها همس حديث جرى
كأنها تسأل : أين الذي قد صاغنا أو باعنا أو شرى

***

سطا البلى فاغتال أهل القبور حتى غدوا فيها رفاتا نثير
أين الطلى تتركني غائبا أجهل أمر العيش حتى النشور

***

إذا سقاني الموت كأس الحمام وضمكم بعدي مجال المدام
فأفردوا لي موضعي واشربوا في ذكر من أضحى رهين الرجام

***

عن وجنة الأزهار شف النقاب وفي فؤادي راحة للشراب
فلا تنم فالشمس لمّا يزل ضياؤها فوق الرّبى والهضاب

***

فكم على ظهر الثرى من نيام وكم من الثاوين تحت الرغام
وأينما أرمي بعيني أرى مشيعا أو نهزة للحمام

***

يا ربّ في فهمك حار البشر وقصر العاجز والمقتدر
تبعث نجواك وتبدو لهم وهم بلا سمع يعي أو بصر

***

بيني وبين النفس حرب سجال وأنت يا ربّي شديد المحال
أنتظر العفو ولكنني خجلان من علمك سوء الفعال

***

شقت يد الفجر ستار الظلام فانهض وناولني صبوح المدام
فكم تحيينا له طلعة ونحن لا نملك ردّ السلام


***

معاقرو الكأس وهم سادرون وقائمو الليل وهم ساجدون
غرقى حيارى في بحار النهى والله صاح والورى غافلون

***

كنّا فصرنا قطرة في عباب عشنا وعدنا ذرة في التراب
جئنا إلى الأرض ورحنا كما دب عليها النمل حينا وغاب

***

لا أفضح السر لعال ودون ولا أطيل القول حتى يبين
حالي لا أقوى على شرحها وفي حنايا الصدر سري دفين
***

أولى بهذي الأعين الهاجدة أن تغتدي في أنسها ساهدة
تنفس الصبح فقم قبل أن تحرمه أنفاسنا الهامدة

***

هل في مجال السكون شيء بديع أحلى من الكأس وزهر الربيع
عجبت للخمّار هل يشتري بماله أحسن مما يبيع

***

هوى فؤادي في الطلى والحباب وشجو أذني في سماع الرباب
إن يصغ الخزاف من طينتي كوبا فأترعها ببرد الشراب

***

يا مدعي الزهد أنا أكرم منك وعقلي ثملا أحكم
تستنزف الخلق وما أستقي إلا دم الكرم فمن آثم؟

***

الخمر كالورد وكأس الشراب شفت فكانت مثل ورد مذاب
كأنما البدر نثا ضوءه فكان حول الشمس منه نقاب


***

لا تحسبوا أني أخاف الزمان أو أرهب الموت إذا الموت حان
الموت حق لست أخشى الردى وإنما أخشى فوات الأوان

***

لا طيب في الدنيا بغير الشراب ولا شجى فيها بغير الرباب
فكرت في أحوالها لم أجد أمتع فيها من لقاء الصحاب

***

عش راضيا واهجر دواعي الألم واعدل مع الظالم مهما ظلم
نهاية الدنيا فناء فعش فيها طليقا واعتبرها عدم

***

لا تأمل الخل المقيم الوفاء فإنما أنت بدنيا الرياء
تحمل الداء ولا تلتمس له دواء وانفرد بالشقاء

***

اليوم قد طاب زمان الشباب وطابت النفس ولذ الشراب
فلا تقل كأس الطلى مرة فإنما فيها من العيش صاب

***

وليس هذا العيش خلدا مقيم فما اهتمامي محدث أم قديم
سنترك الدنيا فما بالنا نضيع منها لحظات النعيم

***